نحن لا نعيش… نحن نُمثل

عديل عقلان:
في هذا الوقت في هذا العالم المزدحم بالكلمات، لا شيء يبدو صادقًا كما هو ولا أحد يبدو حيا كما يُفترض أن يكون.
نحن لا نعيش الحدث، بل نُمثله… نرتدي أثواب الحزن متى استُدعينا للبكاء، ونرفع رايات الشرف متى استُشهد أحد الشرفاء، لكننا في الحقيقة…كنا غائبين عن كل شيء قبل أن يبدأ.
أمامنا الآن مدينة تنزف، لا في الأطراف فقط، بل في القلب. في كل زاوية حكاية، وفي كل حكاية بطل مجهول، لا يجد من يشاركه المعركة، ولا حتى من يمنحه ظل كلمة. هنا في هذه المدينة تعز سقطت فتاة #أفتهان لا لأنها ضُربت برصاص غادر، بل لأن الجموع التي كانت تُصفق للعدالة، لم تصفق لها وهي تدافع عنها.
سقطت لأن من حولها كانوا يُراقبون، لا يُشاركون.
وفي لحظة موتها استيقظ الجميع.
استحضروا فجأة كل مفردات الشجاعة والكرامة والولاء. كتبوا، تأثروا، ذرفوا دمعًا لم يكن يومًا كافيًا ليُوقف طلقة واحدة.
صاروا فجأة مناصرين لقضيتها، وهم أنفسهم الذين لم يجرؤوا على قول نحن معك وهي تحترق بصمت في وجه الظلم.
نعم نحن نُمثّل.
نُجيد صناعة البكاء العلني، ونُتقن التفاعل الرقمي مع الموت، لكننا فشلنا في أبسط اختبار للوفاء:
أن نكون موجودين حين لا يرصدنا أحد، حين لا يوجد جمهور، ولا كاميرات، ولا تصفيق.
لم نكن هناك حين احتاجتنا، ولا حين رفعت رأسها في زمنٍ طأطأ فيه الجميع.
هذا ليس مشهدًا من رواية، ولا لقطة سينمائية هذا يحدث الآن، أمام نوافذنا، في شوارعنا، في هذه اللحظة بالضبط. والوجوه التي كانت تتفرج بالأمس، هي نفسها التي تكتب الآن كلماتها على الجدران وعلى الشاشات، وتُقسم أنها كانت مؤمنة بالقضية منذ البداية.
لكن الحقيقة لا تبحث عن كلمات.
الحقيقة كانت تبحث عن كتف، عن يد، عن ظل لا يخذل، عن صوت لا يرحل مع أول رصاصة. الحقيقة كانت تُريد منّا أن نكون أكثر من متفرجين، أن نتحرك، أن نقول “لا” حين كانت الـ لا تعني شيئًا.
هل نُدرك الآن أننا نعيش زمنًا بلا ضمير جماعي؟
زمنًا كلُّنا فيه حريصون على صورتنا بعد الموت، أكثر من وقوفنا مع الأحياء قبل أن يُسحقوا؟
صرنا نُفضّل أن نُكتب رثاءً جميلًا على أن نُكتب موقفًا شجاعًا. نُجيد الموت الرمزي، ولا نُجيد الحياة الحقيقية.
كل ما يحدث حولنا ليس صدفة.
الخذلان يتكرر لأننا لم نغيّر أنفسنا.
الضحايا يسقطون لأن الجلاد لم يجد مقاومة، بل وجد جمهورًا يتفرج.
ونحن؟
نحن نُحضر خطاب الرثاء قبل أن نُحضّر أنفسنا للوقوف مع من يستحق الحياة.